مقال تحليلي من واقع التجربة… وبحث في جذور نظام العمل الحديث وحلول المستقبل
قبل فترة، طرحت سؤالًا بسيطًا على حسابي في الإنستقرام:
“من الذي قرر أن نعمل 8 ساعات في اليوم؟“
لم يكن الهدف حينها سوى فتح نقاش ودي مع المتابعين، لكن المفاجأة كانت في التفاعل غير المتوقع. مئات الرسائل وصلتني خلال ساعات، وجميعها حملت شيئًا مشتركًا: الناس لم تعد تشعر أن نظام العمل الحالي مناسب لواقعهم.
شخص كتب لي بأنه يعمل 8 ساعات يوميًا، لكنه يضيع ساعتين ونصف في التنقل، ليبقى فعليًا خارج بيته 11 ساعة.
أمّ أخرى قالت إنها شعرت بأنها فقدت سنوات من حياة أطفالها بسبب التزامات العمل.
وشخص ثالث أبدى إحباطه لأنه يُنجز مهامه باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي خلال ثلاث ساعات، لكنه يُجبر على البقاء في مكتبه ليُكمل “ساعات الدوام الرسمية”.
عند هذه النقطة، أدركت أن الموضوع يستحق أكثر من مجرد “ستوري”.
فقررت أن أبدأ رحلة بحث جدّية، أعود فيها إلى جذور هذا النظام، وأسأل السؤال الكبير:
هل لا يزال نظام 8-8-8 صالحًا لعصرنا؟
البدايات: فكرة عمرها أكثر من قرن
نظام “8 ساعات للعمل، 8 ساعات للراحة، و8 ساعات للنوم” لم يولد من فراغ، بل اقترحه المفكر الاجتماعي ورجل الأعمال البريطاني روبرت أوين قبل أكثر من 200 عام.
في ذلك الوقت، كان العمال يُجبرون على العمل بين 12 و16 ساعة يوميًا في المصانع، وسط ظروف قاسية وغير إنسانية.
جاء أوين بفكرة تقسيم اليوم بالتساوي، كحل إنساني وثوري. ومع الوقت، بدأت بعض الشركات الكبرى تتبنى الفكرة، أبرزها شركة فورد في عام 1914، والتي قررت تخفيض ساعات العمل وزيادة الأجور، فارتفعت الإنتاجية بشكل لافت.
لكن ما بدأ كتحوّل اجتماعي مهم، تحوّل مع الزمن إلى نظام جامد لا يُراجع، ولا يُسائل، حتى في ظل تغيّر العالم من حوله.
ما بين الثورة الصناعية والرقمية: تغير كل شيء… إلا النظام
لكي نفهم لماذا نشعر اليوم بهذا الاختناق، لا بد أن نرجع إلى المشهد الأوسع:
كيف تغيّر شكل العمل عبر العصور؟
شهد العالم منذ القرن الثامن عشر أربع ثورات صناعية رئيسية:
- في الأولى، بدأت الآلات تحل مكان اليد البشرية.
- في الثانية، ظهرت خطوط الإنتاج والمدن الصناعية الكبرى.
- في الثالثة، ظهرت الحواسيب والإنترنت، وبدأ الاقتصاد ينتقل من الصناعة إلى اقتصاد المعرفة.
- ثم جاءت الثورة الصناعية الرابعة، حيث دخل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والروبوتات الذكية، وتحولت المفاهيم كلها.
اليوم، لا نعيش فقط ثورة تكنولوجية، بل أيضًا ثورة إنسانية. الناس باتوا يطالبون بالمعنى، بالمرونة، بالوقت.
نموذج العمل الصلب الذي نشأ في مصانع القرن التاسع عشر، لم يعد يتماشى مع واقع الإنسان الذي يعمل من اللابتوب، في المقهى، أو من غرفة معيشته.
لماذا لم يعد هذا النظام يناسبنا؟
حين تتأمل في النقاشات حول نظام العمل، تجد أن المشكلة لا تكمن فقط في “العدد”، بل في الفلسفة التي يقوم عليها النظام نفسه.
هل من العدل أن يُقيّم عامل بناء، ومحلل بيانات، وفنان رقمي، جميعهم تحت نفس قالب الـ8 ساعات؟
ثم إن الأدوات التي نملكها اليوم تجعل الإنجاز أسرع بكثير من السابق.
أصبح من الممكن إنهاء مهمة كانت تأخذ أسبوعًا في ساعتين.
فلماذا نُقيّد الموظف بعدد ساعات، بدلًا من أن نقيس أثره؟
وحتى من الجانب الإنساني، تغيّرت الدوافع. الناس لم تعد تعمل فقط لتأكل وتعيش… بل لتُحقّق ذاتها، وتستمتع بوقتها، وتبني شيئًا تؤمن به.
جودة الحياة اليوم لا تُقاس بعدد الأيام التي عملت فيها، بل بقدرتك على التحكم في وقتك.
تجارب عالمية أعادت التفكير
بعض الدول بدأت بالفعل تجربة نماذج جديدة تُركّز على المرونة والإنتاجية بدلاً من الانضباط الزمني الصارم، ومن أبرزها:
- نموذج ROWE (العمل حسب النتائج): لا يهم كم ساعة تعمل، المهم أن تُنجز المطلوب بجودة وفي الوقت المحدد.
- نموذج WILL (مكافأة الإنجاز): كل مهمة تُنجز تُحتسب لك مقابل نقاط أو مكافآت، بدلًا من راتب ثابت فقط.
- نموذج Chronoworking: يعتمد على ساعتك البيولوجية، فتعمل في الوقت الذي تكون فيه في قمة تركيزك.
هذه النماذج طُبقت في دول مثل آيسلندا، اليابان، والولايات المتحدة، وحققت نتائج مبهرة في الإنتاجية، والراحة النفسية، والابتكار.
ما الحل؟ نموذج عمل تجريبي جديد
من خلال تحليلي لكل هذه التجارب، ومن خلال النقاشات التي دارت بيني وبين المتابعين ورواد الأعمال، خرجت باقتراح أعتقد أنه يستحق التجربة داخل بيئة العمل في منطقتنا:
نموذج تحت اسم:
“نظام موظف المستقبل المرن “ Future Employee system
يقوم هذا النموذج على ثلاث ركائز:
- التركيز على النتائج: ما يهم هو الإنجاز، وليس عدد الساعات.
- احترام الفروقات الفردية: كل موظف يحدد أوقات إنتاجه القصوى.
- مرونة في توزيع المهام: بأسلوب يحافظ على جودة العمل وروح الفريق.
يمكن تطبيق هذا النموذج تجريبيًا داخل مؤسسة واحدة لمدة 3 أشهر، مع مراقبة مؤشرات مثل:
- الإنتاجية
- الرضا الوظيفي
- التوازن بين العمل والحياة
- جودة النتائج
إذا نجح، يمكن توسيعه وتكييفه حسب طبيعة كل مؤسسة أو قطاع.
ختامًا: دعوة لإعادة تصميم الزمن
نحن لا نملك رفاهية إعادة اختراع الزمن…
لكننا نملك، بكل تأكيد، القدرة على إعادة تصميم طريقة استخدامه.
ليس المطلوب أن نكسر كل شيء ونبدأ من الصفر، بل أن نسأل أنفسنا بصدق:
هل ما زال هذا النظام يخدم الإنسان، أم أصبح الإنسان يخدم النظام؟
هذا المقال هو محاولة لفتح هذا النقاش، ولعلّه يكون بداية لتغيير أوسع يقوده الجيل الجديد من أصحاب القرار، وروّاد الأعمال، وصنّاع المحتوى، وكل شخص يؤمن بأن الوقت هو أعظم أصولنا.
فشاركنا رأيك، وأخبرنا: ما هو الوقت المثالي للعمل من وجهة نظرك؟
وهل أنت مستعد لتجربة نظام مختلف… إن كان يمنحك حياة أكثر توازنًا؟